خطٌ من نورٍ دُرِّي, وشعاع من ضياء القمر؛ يشقُّ طريقاً إلى زهرةٍ تتمايل مع نسمات الهواء العليل, جذبته بسحرها؛ فاتكأ على بندقيته مُقترباً منها, واستلَّها سلاً رقيقاً برفق, ثم أسند سلاحه على ظهره وتابع خطواته إلى بيته البعيد.
وهو في الطريق, اتصلت به بصوتٍ تجففت منه سمات الأنوثة: لن أظلَّ في البيت إن لم تحضر لي العقد!
- ما بالك يا امرأة!
- ما معنى أن تطلبه أختكَ فيحضره لها "أكرم" في ذات اليوم!؟
- ما الذي سيجري إن انتظرتِ حتى تطلع الشمس!؟ أخبرتكِ أنّي لا أملك ثمنه الآن, هل فقدتِ القدرة على الاستيعاب!؟
- أنا مجنونة!! أليس هذا ما تقصده!؟
لم تكن له فرصة لعب الشوط الأخير, ولم يكن له شرف إنهاء المكالمة وتقبَّل إغلاق الخطِّ في وجهه بصدر رحب وعقلٍ يكبُر على صغائر الأمور!
هناك حيث الضعف في ثياب القوَّة؛ مشى في الطريق وحيداً مُتعباً, لكنَّ فرحه بالعودة غطَّى كل مشاعرِ الضنك والإعياء الباديةِ في وجهه الكئيب, وتعويذة " أنا على قيد الحياة" التي ما غادرت لسانه, منحته طاقةً غريبة وشعوراً بالقوة؛ جعله يركل باب البيت بكعب بندقيته مرفوع الهامة, وكأنه تُوِّج ملكاً على الدنيا بمن فيها, ثم نادى بأعلى صوته... "لورا"!
دخل الغرفة بهدوء خشية أن يوقظها واقترب منها على رؤوس أصابعه حابساً أنفاسه, وسبح في النظر إليها مبتسماً, فمسح على شعرها ودعا لها, ثم وضع الزهرة على وسادتها و همَّ بالخروج.
- مجاهد .. متى عُدت!؟
ارتبك "مُجاهد" وشعر أنه قد أصاب ذنباً لا يُغتَفر: أنا آسف لم أقصد أن أقطع عليك نومك.
- لا تقل هذا, أنا التي عليها أن تعتذر, لكنَّه التعب والنعاس ساقني إلى النوم رغماً عني.
في تلك اللحظة تسللت عيناها إلى الزهرة, فتجمَّعت زغاريد الفرح والسرور في قسمات وجهها؛ وضمَّتها إليها حتى ضاع مجاهد بين الزهرتين.
- أحببتُها فأردت أن أمنحها شيئاً من طيبكِ و حُسنكِ؛ ولا أظُنُّكِ تبخلين بأريجكِ على الورود والزهور!؟
نظرت إليه بعصبية وشيءٍ من الغرور: ما هذا!؟
-ألم يُعجبك!! إنَّه أجمل عقد ارتدته "تالة" في مسلسل "ضباب"!
- لا, عقدُ "نتالي" في مسلسل "الشرق" كان أجمل! ألم أخبركَ أنَّ له حبَّة كبيرة في المنتصف وباقي حبَّاته متساوية! ما هذا الذوق.. يا إلهي !!
شعر بالحزن والخوف وازداد ذلك حين وجد رسالةً مكتوباً عليها "لم أعد أقوى على التَّحمل, سأعود إلى النمسا. وإن أردت أن تظلَّ في هذا الجحيم فلتبق وحدك. وجُبنك وخوفك الذي يمنعك من الهرب أو الرحيل, لن يحرمني حق الحياة. لا تتصل بي إلا إن أردت المجيء معنا, التوقيع: "لورا"!
دفن رأسه في السرير باكياً, بعد أن عرف عِظم العجز الذي هو فيه؛ فكيف سيقنعها بالعودة؛ وهو غير مقتنعٍ بالبقاء, ومن أين ستأتيه الجُرأة على الرحيل!؟
أمضى وقته في التفكير حيراناً ومُتسائلاً: لمَ لا أكون سعيداً!؟ ولمَ يتمتعون بحياتهم, و أرضى أن أظلَّ ذيلاً وتَبعاً يموت بلا ثمن, و أُحرَمُ حتى من تقرير مصيري والحفاظ على أصدقائي!
صرخ بأعلى صوته " كفى"!! وانهال بالضرب على كل ما رآى أمامه حتى أحال الغرفة إلى مستودعِ قطعٍ تالفة, ثم أمسك الهاتف وصمَّم معاودة الإتصال حتى يستطيع محادثتها.
رفعت من صوتها الموسيقي لِيصلَ إليه: هل تريد الشاي مع العشاء؟
وفي تلك الأثناء أحسَّت بيدٍ تتصنع الرِّقة تُغطي عينيها البريئتين: مَن أنا!؟ و رغم أنَّه أخافها قليلاً إلا أنَّها ابتسمت وقالت: ماذا لي إن حزرت!؟
- إن لم تحزري ستصنعين لي بيضاً مقلياً بالسمن البلدي!
- لا لا , أنت "مجاهد" صاحب المعدة التي أسمع صوتها الآن!
ملأت ضحكاتهما البريئة أجواء المكان الضيق؛ لتفتح لهما نافذةً من نور تُسرج الليل والنهار بوهج السعادة العزيز.
- على ماذا تضحكين!؟
- على هذا العقد المتخلف, ماذا ستقول لي "إنعام" إن رأتني وأنا أرتديه!؟
- أخبريها أنَّه كعقد " تالة" ولا يمكنها أن تأتي بمثله إلا بتوصية من باريس!
- لا تقنعني بهذا الهراء, لو طلبتُ من والدي لأحضر لي خيراً منه ألف مرة!
- المشكلة أنه على " تالة" أجمل! ثم خفض صوته قائلاً: كيف سيكون جميلاً على رقبةٍ مطوية كطيِّ السجل للكتب!
ردَّت عليه بصوت غاضب: لا تُعد هذا الكلام ثانيةً!
- أرجوكِ, أتوسَّلُ إليكِ... أنا سعيدٌ لأنني لم أمت اليوم, وأردت أن نحتفل سوياً.
قطعت عليه كلامه وقالت: وأنا قضَّ مضجعي صوت صواريخ القسام, أرعبتني وأتلفت أعصابي وقد نجوت أنا أيضاً من الموت اليوم, لكنني سأحتفل حين أصل النمسا فحيينها فقط سيبدأ تاريخ ميلادي!
- وماذا عني!؟
- ليس لنا حياة في هذه الأرض الملعونة, فكِّر مع نفسك بصدق, قد أخرجونا من "نتساريم" وأعينهم على "أورشليم", سيصلون إليها صدِّقني, ولن نستطيع حيينها إلا أن نموت. ولذلك استبق الوقت وحافظ على ما تبقى من حياتك؛ ليبارك لك الرَّب فيها, ولنتذوَّق سوياً طعم السعادة التي حُرمناها في هذه البلاد السوداء.
توقفت يدها على صحن الطعام وتمسمرت فيه قطعة الخبز الصغيرة, ثم رآى منها دمعةً تتدافع للخروج؛ فأصابت فيه مقتلاً, و بلع ما في فيه مذعوراً وخائفاً عليها: ما الأمر يا عزيزتي؟ ماذا حلَّ بكِ!؟ هل تشعرين بألم!؟ ما الذي ضايقك!؟
حبست دمعتها و ردَّت عليه مبتسمة لتذهِب شيئاً من قلقه: أنا بخير, لا تقلق.
- لن أصير بخير إن لم تخبريني ما الأمر!
حاولت ترتيب كلماتها والإفصاح عمَّا بداخلها من مشاعر, لكنها اختارت الألغاز وقالت: خشيت أن تأخذك البندقية مني!
- فهمتُ ما الذي ترمين إليه؛ لكننا مؤمنون بقضاء الله وقدره, ثم إنكِ الأعلم بأننا أصحاب هذه الأرض و واجبنا صرف المعتدين عنها بدمائنا حتى نبلغ إحدى الحسنيين.
تحشرجت دمعاتها أكثر؛ فلم يعطِها المجال وأكمل قائلاً: ما بال المرء إن تعلَّق بربه, وأهداه روحه ونفسه, هل يحرمه الكريم زوجَه أم يحفظها في غيابه, ويجمعه بها في جناتٍ وقصور, سقفها عرشُ الرحمن!؟
أخفضت رأسها خجلاً من الإجابة التي أنساها إياها الشيطان في لحظةٍ دنيوية, ثم أمسك بيديها و ضمَّهما إليه و قال مبتسماً: "نحن هنا في اختبار وامتحان, نَسعد ونُسر". ثم شدَّ يدها بين أصابعه أكثر وقال: "و قد نحزن ولكننا نعلم أن هذا وذاك لن يأخذنا من طريقنا الذي نبتغيه, وعلى كلِّ واحدٍ منَّا أن يكون جسراً يمرُّ بنا درب السعادة!"